أرصفة الغياب

أرصفة الغياب

 

كان يواظب كل صبح في الجلوس على ذاك الرصيف الذي ألفه وتعود عليه منذ أخر مرة قالت له فيها  معلمته  بغضب وهي تحاول أن تتراجع عن صفعة باليد وتصفعه بالتوبيخ .

يا ابن أل ....................لا تأتي غدا من دون زي مدرسي ..ومن دون ولي أمرك !!

ألف الجلوس منذ أخر مرة ضربه عمه وهو يحثه على الخروج إلى العمل ومساعدته على ضنك العيش .

زي المدرسة كان هين عليه أن يجلبه من خالته التي مات زوجها وفي عنقها أربعة اطفال تلف نهارها وليلها وهي تتجول من بيت الى بيت لتبيع حاجيات النسوة لتسد رمق عيالها وتوفر لهم بحبوحة من العيش اليسير, وتشعر بالأسى لابن أختها الذي خرج حيا من انقاض بيت تساقط وانهار بالكامل جراء سقوط اضطراري لصاروخ وقع عن طريق الخطأ على عائلة وليس معسكرا أيام سنوات الكر والفر الوردية بالأمس,إلا أنها تقر دائما بأنها لا تستطيع أن توفر له إلا ما تبقى من فيض أبناءها وما نبذوه أو نبذهم من ملبس وحاجيات بسبب محطات العمر المتسارعة.

أما ولي أمره فكان عمه الذي يردد دائما في باحة الدار بصوت جهوري تعتريه ألحشرجته بسبب ما يتناوله ليلا من ترياق .

أنا أول السائرين تحت مقولة دينهم دنانيرهم وقبلتهم نسائهم ....فمن أتاني بأحداهن نجا ومن لا يستطع فلا  مكان له في بيتي .... أتسمعون يا أولاد القح...........

كان يرددها ليلا كلما يفوق حد الثمالة ولا يستطع من في الدار أن يناموا إلا بعدما يحكمون إغلاق أبواب غرفهم جيدا ويحشرون أصابعهم في ثقب أذنيهم ,حتى إن هذا الحشر جعلهم قليلو السمع . 

الأمر هذا يعني لا عودة للمدرسة مرة أخرى ...

هكذا قال في سره وهو يخلد للنوم بعد خطابات صاخبة للعم الثمل ,فضل ترك الدراسة والتفرغ للعمل ,......

في الصباح يجلس على الرصيف قبالة مدرسته ليروي ظمأ عشقه للدارسة وما تبقى من النهار يجلس على ذلك الرصيف وسط المدينة ينتظر ضوء توقف السيارات في أشارة المرور ليمسح زجاج السيارات تارة ويدندن بصوته الجميل لاستجداء عطف المارة تارة أخرى,لسانه للمارة ,وعيونه لإشارة المرور .

غاب لأيام معدودات عن ذلك الرصيف والمارة وسائقوا السيارات يرمقون مكانه وينظرون لبعضهم بالكثير من الأسئلة عن مصيره وما حل به ,إلا سائق واحد كان نظرته كالطائر للمكان ....تفحص المكان أكثر ,فبكى ,مسح دموعه وأشار للسائق الذي بجانبه أن ينظر أعلى أشارة المرور ,صورة مكتوب أسفلها ...... استشهد بسيارة مسحها فبادلته بالانفجار ....كعين الطائر نظر الجميع الى الجميع ....كل الطرقات والأزقة والأرصفة وإشارات المرور تفضي إلى ذات الغياب والعناوين وان اختلفت الصور.

 

صيف 2011

تم عمل هذا الموقع بواسطة