القصيدة الأخيرة
خيوط الشمس،عبر ذلك الثقب، في تلك الزنزانة المظلمة،اخترقت صمته،ابتسم وهو ينظر لتلك الخيوط الفضية، التي طالما كانت تأتي له بوجه ولده الذي اعتاد أن يوقظه كل صباح وهو يضع يده الصغيرة الناعمة على انف أبيه ويجره مع صوت صفير يطلقه عبر فمه يشبه صفارة القطار عند الانطلاق،فيستيقظ رغما عنه،ويحتضنه بيديه ويشمه ويقبله ويتقلبان على السرير بصوت صاخب وهما يضحكان،و يستنجد الابن بأمه لأن الأب انهال عليه بالتقبيل والعض، ابتسم ابتسامة عريضة،أعادت له تلك الخيوط الفضية شريط ذكرياته،
تحديدا قبل ست انتفاضات من هذا الصمت،ثمة صوت قادم،
احدهم يطرق الباب،حينها كان يجلس منحنيا على تلك الورقة التي كان يخط فيها قصيدته الأخيرة، اخترق صمته صوت احدهم وهو يلهث كأنه كان في سباق .
- أأنت هنا ؟.. وفي الخارج هلاهل أعراس للرصاص ؟!!..
أدار وجهه نحوه وابتسم ابتسامته المعهودة ووضع الورقة في جيبه وقال له بهدوء وصوت خافت جدا .
- اعلم ذلك ..ولذلك لابد أن نجتمع !!
هم الرجل بالجلوس على كرسي الخشب الهزاز واسند ظهره للكرسي وهز بقلق وقال له .
- أين سيكون مقر الاجتماع ؟
نفس عميق اخذ يشوبه الحزن وبكلمات حزينة أجابه
- رام الله ستكون شاهدة .. ...... ربما على أخر اجتماع !!
أوقف الكرسي الهزاز فجأة وهو ينظر له بتعجب .
- لماذا أهذه تنبؤات يا عزيزي؟؟
ابتسم ونهض وهو يتوجه نحو مكتبته ليدس فيها كتاب ضخم كان ديوان شعر للشاعر محمود درويش وقال له
- لا اعلم .... ربما تكون توقعات !!
من الباب الخلفي للدار خرجا، تحركت بهم تلك السيارة الصغيرة التي كان مختوم عليها اسم (القدس 2000 )،
الدار يعمه السكون،التلفاز ينقل أخبار المقاومة، فتاة في ريعان الشباب تجلس قلقة تلوك سبابتها بمقدمة أسنانها،تتابع بنهم وعيون يجتاحها التوتر تغمض جفنيها بسرعة متوالية وبقلق مع تواتر الأنباء عبر التلفاز،
صوت باص المدرسة عند الباب،صيحات الأطفال تعلو لتودع احدهم،تلتفت نحو الباب وتعاود النظر للتلفاز بحيرة وقلق وتردد،فتنهض مسرعة تفتح الباب وهي تستدرك قلقها وتستجمع قواها لتكون أكثر هدوءا،
هلووووووووو ماما ........كيف كان يومك ؟.
بعفوية الأطفال وبراءة أجوبتهم قال لها .
زين ماما .............زين ...ابتسم واحتضن ساقها وقال لها
ماما ... أين بابا .............؟
بقلق وحيرة لاحتا وهي تدير بعينيها يمينا ويسار وتحاول أن تتمالك وتستجمع الكلام،نظرت له ووضعت يدها على رأسه وهي تحاول أن تقنعه بما لم تقتنع هي فيه في سرها و قالت له .
بابا .................بابا ...............سيأتي...............بابا سيأتي حتما.......هيا تعال لتستحم ..........
محاولة أن توقف قلقها والتساؤلات التي كانت تكثر وتتعالى بداخلها .
لم تمر على الأب سوى ثلاث ساعات خارج الدار، عاد إلى بيته فرحا، لأنه عاد بسلام وان ثمة في العمر أيام أخر،فتح الباب ببطء وهو يمد رأسه إلى الداخل بابتسامة كبيرة جدا وهو يهمس بصوت خافت مناديا من في البيت .
- أين أحبتي ؟؟..................أين ذهبوا؟؟ .......
هرول الابن وخلفه الأم مسرعان فرحان لعودة الأب،الابن يصرخ بصوت عال .
- هي .........بابا ...بابا .....
يحتضن ابنه ويرفعه إلى الأعلى ويقبله وينزله وهو يقول له .
- هلو بابا .............هلو بيك .......
مد ذراعه نحو زوجته التي تلاشى قلقها بفرح العودة الميمونة وهمس في أذنها.
- أني جائع جدا حبيبتي ..
تجيبه بكلمات متعثرة من الفرح والدموع أسفل عينيها .
- الآن .....الآن سيكون كل شيء جاهز ....
جلس بالقرب من طاولة الطعام، ينظر مستمتعا بوجه عائلته الصغيرة، مد ذراعه نحو زوجته.
- عزيزتي أعطني وعدا .. بأن تحافظي على ولدي مهما جرى ؟؟
وباستغراب وقلق مجددا
- لماذا ؟؟ .. ما الذي جرى ..لم أعهدك بهذه الحالة أبدا ؟؟
نهض من الطعام ودلف لمكتبه وزوجته خلفه وجلس على المكتب وهو يطأطئ رأسه نحو الأرض .
- إن ما جرى اليوم من عملية استشهادية .. تدعوني للقلق عليكم ؟؟
بكت خلسة،مسح دموعها،وسلمها كتيب صغير وقال لها .
- أكمليه من بعدي يا عزيزتي .
خرجت هي باكية ،جلس هو على المكتب، مسك الورقة والقلم، أكمل قصيدته .
ذهب إلى فراشة، احتضن زوجته وابنه، هرب منه النوم والنعاس بعيدا ،قضى الليلة يتأمل بوجه زوجته وولده الصغير، وما أن قرر الاستلام للنوم،استفز الصمت صوت المؤذن الذي كان في نبرات صوته إصرار حزين وهو يقول بصوت عال جدا .
- الله اكبر من كل شيء.
هب و اغتسل،كي يتوجه ليصلي في المسجد القريب من بيته،اطل ببصره عبر النافذة، رأى كل شوارع المدينة مدججة بالسلاح،أيقظ صوت أقدامهم وزمجرة آلياتهم النيام من حوله، صلى صلاته على عجالة،احتضن عائلته، قبلهم وقال لهم :
- الآن بدأت ساعة الصفر والحسم ..فربما لن تروني بعد هذه اللحظة؟؟
تعالى البكاء والنحيب كفكف بيديه دموعهم وأردف قائلا :
- أحبتي تذكروا دوما هذا اليوم .. واسألوا أنفسكم دوما ....
الرصاص ينهال على الدار من كل مكان ،أعقبه طرق قوي على الأبواب، احتضنهم مجددا،وقال لهم.
- تذكروا هذا اليوم واسألوا أنفسكم لماذا أردت أن أكون طريدا ؟ أنها القدس .. القدس .القدس...........................
كسر الباب، أحاط به مسلحون كثر،أخذوه من بين عائلته، وأهدوه قيد القديم جديد، اقتادوه للحافلة العسكرية ...... وغيبوه........
الخيوط الفضية تلفحه بحرارتها وتزيد من ثورة الغضب في داخله، نظر لإطرافه المصلوبة على مقصلة نبيه .. انقطع تأمله الفضي.
وتوقف شريط ذكرياته مع غروب الشمس،إلا انه أيقن أن اللقاء مازال قريب،ثمة صوت ثمل يستفز صمت الزنازين،يعلو مترنحا متبخترا.
- افتحوا الزنزانة ؟؟
ضابط ثمل طالما أبدع في تعذيبه قال له وهو يترنح .
- المسرحية قد انتهت .وربما سننفذ بك اليوم حكم الإعدام على طريقتي الخاصة ؟؟
ابتسم وبكل هدوء وثقة قال له .
- قبل أن تنهي فصول مسرحيتكم .. هل تسدي لي خدمة ؟؟
ضحك الثمل بصوت عال واختنق بأنفاسه وقال له بكل ثقة أيضا .
- تفضل .. اطلب .. فسيكون أخر طلب لك في هذه الدنيا.
أجابه وهو يومىء له على جيبه العلوي .
- في جيبي رسالة .. أريد منك أن توصلها لزوجتي .........
اخذ الضابط الثمل الرسالة ودسها في جيبه السفلي .......
في الصباح أعلنت إذاعة القدس....
إن مروان البرغوثي أصدر ديوانه الشعري وهو الآن متوفر في جميع الأزقة والشوارع والقلوب ومن الجدير بالذكر إن الديوان يحمل عنوان أخر قصيدة كتبها في معتقله والتي اسماها (ستستمر الانتفاضة)....
خريف 2001