ترانيم العزاء

ترانيم العزاء

الى - صديقي عبد الخالق كيطان

عاد من سفر طويل، يحمل أهات الغربة بين تجاعيد وجهه المتعب،يجلس بين ألفينة والأخرى، كي يلتقط ما تبقى من أنفاسه ألتي غادرت عنفوانها بعدما أيقن بان الأمل  فيه قد رحل لجهة مجهولة،تاركا وراءه جسدا  تهرأ من كثرة الدموع واليأس،عاد ويا ليته لم يعد الآن،لم تتعرف على خطاه درابين محلته ألقديمة ألتي شملها عبث ألعولمة لتتحول إلى  أسواق وبنايات يجهلها،درابين شهدت ليالي اللعب الجميل بين صبية يتقاذفون الكرة ما بينهم او يرمون قطعة الخشبة الصغيرة ويهرولون خلفها او يغمضون أعينهم فيما يذهب احدهم لإخفاء شيء ما يقتفون أثره ،أو يخفون أنفسهم في زواية مظلمة بعيدا عن عين ذلك الباحث عنهم الذي إن رآهم يعلن حرقهم فيخرجون خارج اللعبة بكلمة (احترق) ,

وان لم يراهم ويصلون للحائط الذي أغمض عينيه به وبدأت منه اللعبة يعلنون بصوت عال سلامتهم من الحرق وبقائهم في فلك اللعبة،كلها ذكريات تراءت له ومرت كأي شريط سينمائي لتنعش مخيلته وهو ينظر لبقايا تلك الزوايا التي فيها أكثر من ذكرى وصورة لامست طفولته،وقف وسط ذلك التغيير الكبير لكل شيء وهو مصاب بالذهول،حتى الذين كانوا  يعرفونه ويعرفهم لم يكن لهم من وجود ألا  تلك ألصور التي في مخيلته وأنفاسهم التي يتحسسها في أزقة ألدرابين التي تغيرت معالمها لشوارع ضخمة متشابهة الشكل،راحت عيناه تتلمس ألعطف من ألمارة عسى أن يرشدونه لبيت صباه الذي فارقه منذ أكثر من ثلاثين عاما مضت من ألغربه كطريد بين ألفلوات،أتعبه ما رأى، جلس أمام أحد المحال كي يستريح، وبلا شعور بكت عيناه ,حينما تذكر شارع مدرسته

كان عائدا من المدرسة وضل الطريق فجلس باكيا يضم حقيبته المدرسية بين ذراعيه،أقترب أحدهم منه،كان ذلك هو الجار أبو محمد،الذي كان يناديه دائما (عمو ابو محمد ) قال له: 

-  لم ....هذا ألبكاء يا بني ..؟

أبتسم وهو يبكي أيقن عندها بان أللقاء بأهله ما زال قائما، حمله على كتفه وأوصله للبيت،وقال لامه 

- وجدته تائها يبكي على قارعة الرصيف..              

شكرته أمي ورحل ..., وضمته لصدرها وهي تقبله، شعر عندها بان مجرد الوجود بين أهله هو ألامان بعينه ..

دمعة انسابت خلسة عنه تحمل ألف حسرة واه ...صمت .....حينها تمنى أن ينقذه ألعم أبو محمد الآن، وهو يجلس يستجدي عطف المارة الذين كانوا يرمونه بنظرات غريبة وبعضهم أعطاه نقودا أعتقد بأنه احد المتسولين.

صوت يلامس أذنيه فجأة،صوت يعرفه جيدا على الرغم من أنه تغير نوعا ما،كان صوتا نديا نقيا صافيا .سمعه الآن  صوتا شابته خشونة ألزمن وحشرجة ألنواح فغيرت من معالم صفاءه،اقتربت منه وهي تدس بجيبه نقودا وتهز برأسها قائلة

- أف منك يا زمن .. كم أذليتنا ونحن كرام. 

انسابت  من عينيها ألدموع كالمطر وهي تلهج بأسمي

- أين أنت يا بني سعد لترى ما حل بي ..../وينك يمه سعد أتشوف ضيمي/..

لم يسيطر على دموعه فبكى بصوت عال جدا،ألتفتت الأم أليه ولم يظهر من عينيها شيء لأنها كانت قد عصبتهما بعصابتها السوداء وقالت

-  ما الذي جرى يا بني؟..

قلت لها وأنا أبكي 

- أماه أنا سعد الذي تبكين عليه..

رفعت العصابة عن عينيها ووقفت مذهولة والدموع تتساقط من عينيها كالمطر وهمست تقول:

- لماذا تركتني ؟...../سعد .. يمه .. ليش عفتني ..ليش ؟/..

حضنها بحرارة وحضنته بشوق وهما يجهشان بالبكاء والعويل.. وقادته للبيت،لم يكن بيت صباه أنه بيت أخر سكنوا فيه بعدما جار عليهم ألزمن وأخذ منهم ما أخذ .

كانت روحه تسابقه وهو  يدخل ألبيت ليضم أخوته وأحبته لصدره ويخبرهم عما فعل به ألزمن ، البيت كان خاويا من الأثاث وأهل ألدار، لم يتبق من أهله سوى أمه وأخيه ألصغير ألذي تعرض في أحدى المغامرات ألدموية لحروب ألعصر إلى أصابة أفقدته ألصلة بالعالم ألخارجي، فكان هما أضيف لهموم عديدة لأمه ألتي اتخذت من ألباب ألخارجي مكانا لها لبيع ألسجائر،

على أطلال الذكريات الشاخصة،طاف بالدموع يتفقد أهل بيته، ويمسح ألغبار عنهم، هناك.. أعلى ألجدار تستقر صورة جده الذي أمتطى صهوة جواده في سكون ألليل، سارقا عتمته وهدوءه، وبأصبع ديناميت وزع أشلاء الانكليز صرعى على ألثكلى  كهدية ثأر..

أما تلك الصورة البالية التي تستقر أسفل صورة جده فهي صورة والده ألشهيد الذي قطعت يديه وساقيه في أبشع عملية تعذيب للأسرى في حرب العبث الثمان سنين، حينها أدار وجهه نحو اليمين،مسح الغبار عن صورة أخويه (محمد وأحمد)، أحمد اقتيد من الجامعة لجهة مجهولة، وقالوا لهم  حينما سألوا عنه

- لا تسألوا عنه .. لأنه يضر بولائكم (للملهم)..

أما محمد هذا الذي يعلمون بقصته، ألا أنهم  يجهلون أين هو، أعتقل بتهمة (نثر الأوراق في منتصف الليل)، وبعد سنين رحموا  أمه خنصريهما، فأيقنت بأنهما شنقا على الطريقة الرومانية.....

وعندما دقت الساعة العاشرة من صباح يوم جديد كان ينظر عبر النافذة كيف تهاوى تمثال هبل في ساحة الفردوس ....................

.....................أما أمه فقد عكفت وسط هذه الذكريات في مكان انزوت فيه تحرك بذراعها مهد العائلة وهي  تنشد بترنيمة العزاء مع الدموع

دللول.. دللول.. يالولد يبني دللول..... دللول.. دللول .. عدوك عليل وساكن الجول .يالولد يابني دللول...

 

شتاء 2004

تم عمل هذا الموقع بواسطة