سعادات لا تنتهي

سعادات لا تنتهي

قصة قصيرة :عدي المختار


(1)

كثيرا ما يفكر الإنسان بالهجرة نحو ارض الحرية المطلقة،حرية ألا قيود،حرية موهومة بالسعادات التي لا تنتهي،لكنه سرعان ما سيصطدم بجدار الغربة ..جدار العزلة ..دروب التيه والضياع حتى ..ويفقد الإحساس بالانتماء  شيئا فشيئا،.........، كلمات سمعتها أكثر من مره، وكررها والدي على مسامعي، وناقشني بها أستاذي في المعهد،حتى جعلوني اكره /التفلسف/ بالكلام،لأني قد عقدت العزم على الرحيل ........،

ليلة الرحيل لم تكن كأي ليلة عابرة،لم انم تلك الليلة قط،كانت الفرحة واللهفة اكبر من أي نعاس ونوم،إلا أن النوم كان لابد منه ولو لبضع ساعات لتكون على مقدرة تامة للسفر الجميل،منتصف تلك الليلة التي كانت يجتاحها صمت الوداع أحسست بالجوع والرغبة بالآكل لان الفرحة أساس كل شهية،لم تكن في الثلاجة غير ذاك التمر الذي جاء به والدي من بستان العائلة ودسه في عمق الثلاجة، ولفرحتي فتكت به دون غسله، لان ما كان يشغلني اكبر من هذه التفاصيل .،.......................

سارت بي السيارة المحملة بالكثير من المسافرين،وبصري يمتد بين الحين والأخر عبر النافذ،كي أودع ما تبقى من الحقول والجداول،....مسير طويل،بلد يحتضنني وأخر يودعني، وثمة شوق يأخذني لشاطئ داري، فتصده أمواج رغبتي ،بحلم الوصول لأرض أحلامي،..... باريس.............

حطت بي رحال الغربة في مدنها الخلابة، وطرقاتها الجميلة، فاقتطعت من زواياها المذهلة محراب لي،

أطرقت بصري عبر النافذة استرق النظر، ارقب حركة ساكنيها، صباحات مشرقة صافية نقية،عمل دؤوب،كأنهم خليه نحل يطوفون الشوارع بانتظام وهدوء،يهدونها عسل ابتساماتهم،وحس تحضرهم، ونقاء سريرتهم، كل شي منظم، وكأنها مدينه تعمل على (الريمونت كونترول)، هكذا رايتهم وهكذا شعرت  لا اعرف إن كانوا هم هكذا أو أني قد توهمت بالجمال لإقناع بقايا مخاوفي من غد الغربة،احتضنتني الطرقات والأزقة،وهي تفتح لي ذراعيها ..أكثر.....فأكثر...،  كأنها تبتلعني الى حيث الحلم ،

على رصيف العشاق  او كورنيش المتعة كما يسموه جلست أتأمل لحظة الغروب تلك التي لم أرى لها من مثيل، قرص ذهبي،اختفى خجلا من الليل وراء السكون، وإذ بصوت يقطع ذاك التأمل  .

هلو .. مسيو 

ضننت انه يكلم أحدا خلفي، نظرت إلى الوراء لم أجد أحدا،،فأجبته.

هلو .... هلو مسيو!

جلس بجانبي وأردف قائلا بلغة فرنسية تشوبها الركة 

هل تتكلم العربية؟

نعم أنا أعراقي .

تطاير فراحا ووقف وفي وجهه ابتسامة عريضة وبلهفة قبلني وقال لي .

أهلا مسيو ...أهلا بيك بفرنسا الجمال يا رجل .

عرفت من لهجته انه سوري .

أنت عربي  ...اقصد سوري ؟

نعم أنا عربي سوري احمل الجنسية الفرنسية

أهلا بك وبسوريا كلها 

لماذا أنت وحيد يا.........؟

فأجبته بسرعة .

اسمي حيدر .

نظر إلي، ومن ثم ضحك وقال .

أهلا بك ..حيدر ... أنا اسمي جورج .

اقتربت منا فتاتان أحسن وأبدع الله بجمالهما،كأنهما ملائكة فضية وكأي هارمون موسيقي يدغدغ وجدان الروح قالت أحداهن  

هاي ....مسيو .

كن على معرفة بصديقي الجديد،احتضنهن وجلسن على جانبيه وقال.

هاتان صديقتاي .. ديانا .. ولانا.

تشرفنا ..اهلا وسهلا .

أحداهن قالت

هل تمانع أن تكون  واحدا منا...؟

وبأجابه سريعة جدا قلت .

نعم... نعم  بكل سرور . 

همس صديقي السوري في أذني كلمات تجاهلتها لأني لم أجد مبرر للبوح بها أو سببا لقولها قال بهمس.

هنا كن كالذئب ...نم بعين واحدة ...وعينك الأخرى اجعلها لليقظة دائما .

 ضحكت وقلت له بثقة عالية .

لا تخف عليه ....أنا /ذيب أمعط/..انا ذئب والذئاب قليل... 

(2)

عبر أجمل متاهات المتعة واللذة ذهبت بي أيديهن الناعمة،حتى شعرت أني أسبح وسط بحر من العسل،كانتا لي كالغيث الذي يهطل على ارض قد ظمئت منذ زمن بعيد،يأخذني النهار بحثا عن مفاتن جديدة لم تكتشف،ويحتضنني الليل بالسهر مع أجمل ما خلق الله من جنس حواء،هكذا كنت أترجم الغربة هناك،إلا أن الخوف من غد آت مجهول كان يباغتني بين الحين والأخر فأنشه بما لذ وطاب بمفاتن من حولي،سهر الليالي تلك كانت له ضريبة ادفعها من التأخير صباحا عن العمل الذي أمارسه،كان عملي مراقب في شركة لبناء المباني،وطالما كان التوبيخ نصيبي صباحا إلا أني كنت بارعا في اختلاق الأعذار فأنجو من تلك اللحظات الحرجة . 

بلا توقيت،أو سابق انذار،خسرت عملي،وكل ما املك من مال، فاستيقظت على حقيقة بشعة،حاولت أن لا أصدقها،كان مجرد التفكير بها  ظلم، جميع من حولي انبروا عني مثلما ينبري الفجر عن الليل، زال وانهار كل شيء مثلما يزول الملك عن سلطانه، فسقطت صريع الحزن والكمت والمرض، انسابت من عيني دمعه حزن،تحمل معها ألف سؤال .

- لماذا خذلوني وتركوني أصارع الفقر والمرض؟؟.

ثمة أمنية،تخرج مع كل الم وتنهد، تبتهل للخالق بأن يستريح هذا الجسد من الأنين والمرض حتى لو ...........، ولأول مره شعرت بأنياب الغربة التي طالما حذروني منها، لان جميع من كانوا معي وأبوابهم كانت مفتوحة لي،قد سمروا  الأبواب كي لا يروني،وأغلقوا المنافذ كي لا يسمعوا صوتي، فأمسيت وحيدا،إلا من اليأس ودافع الخلاص من عار نفسي،توسدت فراشي الثلجي،وغرقت ....غرقت،في بحر متلاطم الأمواج وأنا اصرخ .

انجدوني ....انجدوني ...انج..........ني .

وإذ بيد بيضاء تمتد نحوي،تنتشلني من الغرق،أخرجني صاحبها على اليابسة ورحل لم أرى وجهه كل شيء كان هالة تشع نورا .....

- رحل ....رحل  ........، هكذا كنت أهذي ..........استيقظت....، مرعوبا،خائفا من هول ما رأيت، كابوس مخيف، غرق مرعب،وملاك يشعرك بهول المعصية ....لم أكن في غرفتي،كل ما في المكان بياض، السرير، الشراشف، الستائر،وحتى الفتيات،كأنهن ملائكة بيضاء، دنت مني أحداهن .

حمدا لله على سلامتك ؟

شكرا ..... لكن أنا أين ؟؟؟

فابتسمت وقالت.

-أنت في المستشفى ... لقد نقلت فجر اليوم  وأنت مصاب بالتسمم 

- باريس .....الست أنا في باريس 

ضحكت الممرضة بسخرية وبصوت عال  وذهبت دون جواب وهي تتمتم ...

- باريس .........هههههههههه.......باريس .......هههههههههههه.

 

صرخت بصوت عال

أين أنا ؟...............أين أنا ؟........ أني اغرق ... أني اغرق... أني اغرق.....صمت .....سيمفونية شخير ......

  

(3)

أنهم لا يريدون أن يقولوا لي إني فعلت ما فعلت لذلك ينكرون وجودي في باريس.....هكذا قلت في سري وأنا أغط في سبات من الشخير المدوي 

ثمة صوت يهز صمت المستشفى بجهر عال .

-(يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزال الساعة شيء عظيم ).

استيقظت مرعوبا....صمت واستدراك لما حولي ....شعرت باشمئزاز يلف نفسي على نفسي،وتملكتني رعشة غريبة، وان روحي تريد أن تغادر روحي،وشيئان تصارعا في رأسي،صرخت بصوت عال، ...

لا ..................لا،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

هدأت قليلا،وثمة سؤال هرب من فمي مسرعا لفضاءات الصمت المطبق على المكان.

كيف يصبح الشيطان ملاكا؟؟؟؟؟؟؟....... كيف يصبح الشيطان ملاكا؟؟؟؟؟؟؟.

فمد احدهم يده على رأسي وأجابني .

- بذكر الله ...بذكر لله .....

تعجبت،تملكني الخوف وأنا أرى صديق طفولتي (عقيل )أمامي  وأردف قائلا.

عرفتك منذ الأمس ..كنت في غيبوبة ..كان وجهك شاحبا .......وبعيد كل البعد عن ......

فقطعت حديثه كي لا يكمل الفضيحة.

لا تكمل يا عقيل ..وقل لي مالذي جاء بك إلى هنا .

ابتسم ابتسامه عريضة و أجاب على سؤالي الساذج بالقول.

أنا؟؟؟؟؟ ...تجدني في كل مكان ...في كل عسر... ويسر.

مسكت يده، متوسلا به بان لا يتركني وحيدا.

أذا ساعدني ..أنا اغرق ببحر لا اعرف له قرار .........تقدم نحو الباب، وكأنه يغادر المكان وقال .

-اذكر الله ...ألا بذكر لله تطمئن القلوب... وعد لأرض لك فيها أحلام لم تتحقق وسعادات لم تحن بعد ....

غادر المكان ورحل، فتعكزت على السرير،وجدران الغرفة وتوجهت نحو الحمام،اغتسلت،وكبرت،تكبير الغفران،............... صمت اشد من الصوت...

 استيقظت....، مرعوبا،خائفا من هول ما رأيت، كابوس مخيف، غرق مرعب،وملاك ينبئك بغد الغفران ....،أبي عند قدمي وأمي عند راسي قلت لهم .

ما لذي جاء بكم إلى باريس ؟..........

ضحك والدي بسخرية عالية وقال لي .

أنت لست في باريس يا بني ...هذا الذي كنت فيه وتهذي به طوال الليل أنما هو  كابوس..أنت تناولت التمر ليلة أمس وأصبت بالتسمم فنقلناك للمستشفى.

صدمت كأي أبله ومرت كل تلك الأحداث على مخيلتي كشريط سينمائي والوجوه تلك كانت تضحك بسخرية عالية،ففرحت كثيرا لان سم عمتنا النخلة منعني عن رحلة موهومة بسعادات لا تنتهي . 

 فسارت بي السيارة عائدا للدار،وبصري يمتد بين الحين والأخر عبر النافذ، أشم رائحة الحقول والجداول، وثمة حزن يلفني ويأخذني لأرض كانت بالأمس حلمي، فتصده أمواج إرادتي،بحلم الوصول لداري...............

 

صيف 1996

 

( عقيل : هو صاحب الصوت العذب ..قارئ القرآن الشيخ عقيل البهادلي)

تم عمل هذا الموقع بواسطة