طائر القصب
كنت مولعا، كل صباح على ترقب ذلك المشهد الجميل حينما أكون ذاهبا للصيد،.. طائر فضي يحلق في الفضاء حال سماعه لصوت جدران زورقي وهو يداعب القصب والبردي اللذان اعتادا على إصدار أصوات لا إرادية (الخربشة ) كأن احدهما يدغدغ الآخر،فما كان من ذلك الطائر الفضي الذي كان يغفو بين القصب والبردي، إلا التحليق هاربا من هذه الأصوات،ضنا منه بأن القادم يهدده، فيطير .... ويطير ..، في سماء الهور الصافية التي كان يعتريها هدوء رهيب،لا تسمع منه سوى أصوات الطيور..، و(خربشة) الحبيبين (المشحوف والقصب)، ومن شدة تمتعي وانشدادي لهذا المشهد،فلطالما تعرضت لجروح كثيرة،لأسباب عده من بينها،اصطدام زورقي بالقصب،مما يعرضني للسقوط وسط المياه على بقايا رؤوس مدببه للقصب، أو بقايا زورق قديم انتحر غرقا،
إلا أني وبدون أرادة يشدني هذا الهدوء وهذا الطائر،لمتاهات التفكير، او أحيانا للإلهام الشعري،أو البوح بصوت عال بموال (محمداوي) اخترق به ذلك الصمت،في صباح يوم شتائي قارص، استيقظت على صوت أمي وهي تشعل النار في الحطب،كي تقدم لي رغيف خبز حار وهي تناديني .
هيا استيقظ فالشمس اخترقت كبد السماء .
وأردفت بالقول وهي تضع يدها على رأسي .
ألا تريد اليوم أن تذهب للصيد؟
فقلت لها وأنا الملم ما تبقى من قواي التي سقطت فريسة للنعاس.
لا ... سأقوم بالحال .. فلدي عمل شاق اليوم .
ومن ثم أضفت بالقول وأنا احمل فراشي لوضعه في زاوية الدار .
أماه ...الم تعرفوا مصدر أصوات الانفجار ليلة أمس ؟
فقالت لي وهي تحاول أن تصنع من عجين الخبز كرات بيضوية وبصوت يجتاحه الحزن والخوف من المجهول .
أضنها الحرب يا بني !!
ضحكت لما قالته أمي وأنا اغسل وجهي وقلت لها باستهزاء.
أية حرب هذه ؟.. منطقتنا مائية لا تصلح للحرب .
فأجابتني وهي تحمل العجين للخارج حيث التنور الطيني المتهالك جزئيا .
اضحك اليوم علي يا ولدي لتبكي على حالك غدا .
تناولت طعامي، وحملت بندقيتي على كتفي وشباك صيدي، وذهبت حيث مكان صديقي الطائر الفضي، وصلت حتى نهايات الماء دون أجد أو استدل على شيء يشير لوجود الطائر،رغم الأصوات التي أصدرتها لاستنهاض تحليقه في السماء،مما ضطرني أن اخترق صمت ذلك الصباح بإطلاق عيار ناري،عله يظهر، حتى هذه المحاولة لم تجدي،بحثت عنه بين القصب، بين شقوق الطين في الماء .....خارت قواي من البحث .....فاستدليت للفجيعة، ثمة طيور تصدر أصوات النياح وهي تطوف فوق بقعة كثيفة من القصب والبردي ,وما أن اقتربت من تلك ألبقعة التي كانت تطوف أعلاها الطيور،ففجعت بما رأيت،طائري الفضي،ملقى على أعواد القصب والبردي،مصاب بطلق ناري،وحوله أفراخه، اللذين كانوا يطلقون أصوات النداء والاستغاثة عل احدهم يسمع فيجيبهم أو يمد يد العون له ، جثة طائر أنبأت عن غد آت بلا نبوءات ,شاهدة لنهايات غير مرئية لما تبقى من تعويذة جسد طائر مغدور وارض يتربص بها الموت، وما تبقى من النسل لملم جراحاته، وأخر ذكرياته، هاربا من القدر والمجهول،الذي استنشق رائحته مبكرا، ولاح فيما بعد ينبعث من دخان القرى المجاورة، التي عاقبها الساحر،في ليلة مظلمة،ليحولها لسواتر حرب ظالمة .
الموت قد حان،وحانت معه،ساعة الصفر لليل بهيم،وموحش، لا يسمع فيه سوى صدى أبواب الزنازين،وعطش الأرض،والدخان المنبعث من حرق بقايا القصب والبردي،اللذان ودعا زورقي،ليتيبس وتتكسر جدرانه من العطش .
كان الطريق إلى الماء طويل، والساعات سنين، ولم ينبلج صباح كل يوم،إلا وهو محمل بجثث الأحبة،ووصايا الأصدقاء،... ولم يجن الليل إلا على وقع صرخات المغدورين، والموثوقين،... تحت التراب، بلا تراتيل أو كفن، إلا إن العرافة،التي فقدت بصرها،كانت بصيرتها اكبر.
زرتها حينما ضاقت بي السبل، في كوخها المتهرئ وسط ما تبقى من حافات المياه جنوبا،...فدعتني بصوتها الخشن للجلوس.
اجلس ..يا ولدي ..ثلاث ساعات ونصف مضت ولم يبق سوى القليل من الوقت.
تعجبت كثيرا لما قالته،وقلت في سري انها كبرت وخرفت،فصححت لها المعلومة .
يا حاجه ..تقصدين ثلاثون عاما مضت ونحن في مسرحية القتل والتهجير بلا استثناء،.. الممثلون والجمهور على حد سواء؟؟
ضحكت بصوت جهوري،ولم اعرف لم ضحكت،ضحكت علي أم ضحكت على خطئها،فتعكزت على عكازها الخشبي المصنوع من أعواد القصب، ووقفت بجانبي،فيما كنت أنا جالس في مقدمة الكوخ،اكتب اسمي على الأرض ببقايا خشبه صغيرة،فقالت لي .
يا بني .. العمر ساعات ...وها أنت تختم الساعات بتوقيعك واسمك ..وخلفك وطن مستباح بتراتيل الخيانة وتسبيح الدم .
ضحكنا أنا وهي كثيرا، أنا اعتبرتها تخاريف أخر العمر، وهي اعتبرت أني فهمت الرسالة جيدا .
كان ليل ذلك الكوخ طويل جدا،وساعاته مملة،لم يسمع من ذلك المكان سوى صوت الهواء المخيف،الذي كان يشبه صوت الخوار،إلا أن النجوم كانت تلمع كالثلج،.. ولم يطل استسلامي للنوم،وفي أخر ساعات الليل إلا بضع دقائق،حتى شعرت بأني ................... اختنق ........... اختنق ............... اختنق ............ اغرق
صيف 2004