وفـــــاء مفقـــود

وفـــــاء مفقـــود

قصة قصيرة :عدي المختار

 

عند تلك الربوة المرتفعة للجهة الشرقية من قريتي،كان جدي يطيل الجلوس عليها منعزلا عن متاهات عالمة القروي،وطالما تساءلت في سري..كأي طفل يعشق الفضول.

 - لماذا يقضي جدي نهاره عند تلك الربوة ؟....ولماذا يخاف الجميع الذهاب إلية أو قطع خلوته ؟

 لم أجد من يجيبني على تساؤلاتي سوى بضع كلمات مبعثرة من هذا وذاك،بان جدي تعود الجلوس على تلك الربوة منذ أكثر من أربعين عاما،وفي مغامرة طفولية لا تخلو من المجازفة  تسللت ذات يوم متخفيا خلسة من عيون الناس كي اخترق ذلك العالم الذي تشدني إلية بقوة خطوات جدي حينما يودع القرية مسافرا نحو الربوة،ووسط صراع مابين الخوف من اختراق ربما لا تحمد عقباه وبين شعور جارف كان يدفع بي للتقدم إلى الأمام،اخترت أخيرا المضي بالمجازفة مهما كلف الأمر، 

سرت بخطوات اختلطت فيها المشاعر مابين خوف وقلق وإصرار وعزم، وصلت،وقفت بهدوء خلف تلة كان جدي يسند ظهره عليها،فهالني ما رأيت،رأيت جدي وهو يجثو على ركبتيه يحتضن قبرا صغيرا جدا لا يسع إلا حديثي الولادة، حاولت أن أرى وجه جدي لكن لم افلح لأني أقف خلفه تماما ولا أرى غير ظهره المسند،ابتعدت قليلا وتسللت بين التلال  البعيدة لاقف خلف تله قبالة جدي تماما،كانت الدموع تغسل تجاعيد زمنه المتعب،إلا انه سرعان ما أحس بان ثمة احدهم قد اخترق عالمة فانساب صوته الحزين الى مسامعي دون ان يستدل على مكاني.

- تقدم ..... تقدم... لا تخف ..  

تسمرت في مكاني من الخوف،وتعالت التساؤلات في مخيلتي .

 - ماذا سيفعل بي ؟؟ أني اخترقت عالمه الخاص الذي احتفظ بسريته طيلة تلك السنين . فكرت بالهرب والعودة للقرية،إلا أني فكرت بان الهرب هنا سيكون حلا ولكن أين المفر منه بالبيت، استسلمت لرغبته ووقفت أمامه فقال لي بابتسامة لا إرادية وهو يفتح ذراعيه لي .

- تقدم يا ولدي.. فالجرأة هي مجد الإنسان .. وأنت جريء فتقدم . 

تقدمت أكثر وفي راسي أكثر من خوف وسؤال ووقفت أمامه وأنا ارتعد من الخوف،تعثرت كلماتي حينما قلت له .

- عذ...عذ...را .... يا جدي،أردت أن اعرف كل شيء عن عالمي .  

ابتسم ومسح دموعه التي استقرت في فوهات جلدته المتجعدة،وبشيء من الثقة قال لي. 

- إن معرفة كل شيء لا يكفي يا ولدي..انك ولدت في عالم عجيب وتحتاج للتجربة كي تصقل معرفتك للأشياء .

لم اعرف أو افهم شيئا مما قاله جدي لذلك لم اجبه إلا انه سرعان ما عرف من خلال نظراتي  باني لم افهم ماذا يقصد بكلامه فقال لي .

- المهم ... أنت أردت أن تجرب قدرتك على اختراق عوالم الآخرين،بحجة انك تريد معرفة عالمك .. وأنا أبارك فيك هذه الجرأة .

ضحك ضحكة حزينة مصطنعة وضمني بين ذراعيه وهو يقول لي بصوت حزين .

- والآن ماذا أردت أن تعرف عن عالمي ... اقصد عالمك أيه المشاكس الصغير .

نظرت لوجهه بحذر وقبلته بخوف وقلت له بكلمات سريعة شابها الخوف من ردة الفعل.

- انه سؤال طالما شغل بالي . ما سر جلوسك هنا على هذه الربوة منذ أكثر من أربعين عاما ؟؟ ولمن هذا القبر الصغير؟؟ .

صمت لبرهة ومن ثم راح يسترسل جدي بحديثه عن سنوات خلت من عمره ...،كان يتردد على هذه الربوة للقاء من يحب منذ نعومة أظفاره،افتقدها ذات يوم ولم يعرف سببا لغيابها عنه،طال فراقها حتى جاءه من يخبره بأنها تزوجت منذ أكثر من شهر،عاد من تلك الربوة وأحلامه تتلاشى يجرها بتعب خلف  خطواته،اتخذ من البكاء على تلك الربوة أنيس له في ليالي الحزن والفراق،وحيدا عاش ليالي الدموع إلا من كلبه الذي رباه منذ أن وجده صغيرا تتلاقفه ضربات الصغار من كل حدب وصوب

تقاسما الوحدة معا،اخبر حكيم العرب أهله بلهجة تحذيرية وهم يتجمعون حول جثتي الهامدة إلا من بقايا أنفاس تحتضر .

- ولدكم فيه مرض ينبئ عن انتشار وباء في القرية...... فعجلوا بالرحيل .

بدا ينظر بعينين باكيتين لرحيل الأهل والأحبة الذين ودعوه بالدموع والأسى، وفي عتمة سواد تلك لليلة التي كان ضجيجها عواء الذئاب انسابت منه أخر دمعة بعد أن أغمض جفنيه للنوم،ثمة صوت يستفيق عليه،ذئب أشهر أنيابه مستعدا للافتراس،إلا أن مرضه منعه من الحركة،بقي ينظر من على فراشة لذلك الصراع،كلب استبسل للدفاع عن صاحبه وذئب لم يرحم عزيز قوم ذل،وأشتبك الوفاء مع رغبة الافتراس العمياء في صراع لم يشهد مثله صراع من قبل،مات الاثنان، سقط الكلب إلى جانب صاحبه، وهو يئن ويشكو والدموع تنساب من عينيه كالمطر، لم يبك الكلب من الألم بل خوفا على صاحبة ومن سيحرسه بعد هذه الليلة،مات الكلب وشفي صاحبه،وحينما تحركت أطرافه،حمل كلبه ودفنه عند هذه الربوة، كي لا تفقد قدرتها على منحه الأمل، دفنه وبكى عليه،ولهذا الكلب يعود الفضل في صاحبه حيا وعودت هذه القرية مجددا بعدما هجرها أهلها وكادت أن تصبح صحراء قاحلة،قطعت حديث جدي وسألته .

- جدي من هو هذا الرجل الذي تتكلم عنه ؟

هز رأسه وضحك بصوت عال جدا وقال لي .

- لازلت طفلا ولا تميز الحديث جيدا .. هذا الذي أتكلم عنه هو أنا .. حقا إن الغباء موهبة بابني ............

ابتسمت واحمرت وجنتاي خجلا وأنا اسمع جدي يصفني بالغباء وتعجبت لما سمعت من قصة،كذبتها في سري وقلت أنها من وحي خيال جدي فهو يريد أن يصرف نظري ويسليني فسايرته بما يروي،وقلت له .

- أكثر من أربعين عاما وأنت لم تنس كلبا ..يا جدي؟

أجابني بحسرة انسابت خلالها دمعة بيضاء كالثلج .

- انه يحمل من الوفاء ما لم يحمله بنو ادم . انه يا بني عنوانا للوفاء المفقود في النفس البشرية . 

عدت يومها والسخرية والضحك على جدي كانت تسيطر على سري وتخرج كرؤوس كلمات تهرب بعيدا عن فمي ،وتركت جدي عند ذلك القبر وأنا لم اصدق ما سمعت وما رأيت، ولما تحركت بي عجلة الأيام، تركت المدينة وصدقت كلام جدي وسكنت على تلك الربوة التي احتضنت رفاة (جدي والكلب) لأنني اكتشفت بان العالم كله لم يكن فيه ذرة وفاء من وفاء الكلب لجدي أو العكس .

صيف 1998

تم عمل هذا الموقع بواسطة